في عام 1351 هجرية الموافق ل 1932 ميلادية ولد الأستاذ المحدث حسين سليم أسد الداراني وما ان بلغ السنتين من عمره حتى توفي والده الذي كان يعمل في تجارة الجملة يبيع الطحين والسكر والحبوب في دكان وسط البلد لأصحاب الدكاكين فيها.
الأستاذ المحدث حسين سليم أسد الداراني
ونتيجة لهذه التجارة ربطته علاقة قوية مع أصحاب طاحونة البوابة في أول الميدان في دمشق واتفق معهم, على أن يرسل طنبرا يجلب أكياس الطحين والحبوب منها كل عدة أيام على أن يضعوا في كل كيس بندقية يوصلها إلى الثوار في الغوطة لمقاتلة الفرنسيين ,ولتقوم زوجته بمرافقة الطنبر عبر حواجز الفرنسيين التي انتشرت على الطريق حتى توصلها إلى محله بسلام . ومع هذا فقد ربطته علاقة خفية مع رجالات الحزب الوطني في الشام، وبقي كذلك حتى عاجله مرض عضال دخل إثره إلى المشفى وتشتد عليه سطوة المرض ويذهب معه المال وقد كان خلفه في محله بعض أصحابه الذين ضيعوا بسوء إدارتهم وقلة أمانتهم ما بقي من مال وليتوفى بعد ذلك ليترك زوجه وأولاده دونما معيل.
أمام هذا الواقع قامت الزوجة أم أستاذنا بتعلم مهنة التوليد ولتصبح قابلة البلد وبذلك وقت نفسها وأولادها محنة الفقر، بل راحت تنفق على المحتاجين والفقراء ولا زلت واخوتي نذكرها حينما كانت تنفق على أرحامها وجيرانها، حيث كانت ترسلنا أحيانا لإيصال كثير من الأمور والمال إليهم في دورهم كما كانت تشتري في المناسبات أثواب القماش توزعه عليهم لخياطته لهم ولأولادهم أيام العيد، وما كانت تسمع بمسجد الا وترسل له ثريا أو سجادة أو مالا حسب استطاعتها في تلك الأيام.
توفي الوالد إذن، فاحتضنته والدته مع أختين تكبره إحداهما بعشر سنين وتصغره الأخرى بعام واحد، ولقد أحاطه حزم أمه وقوة شخصيتها وحكمتها واحترام من حولها لها بعد فقد والده بسياج يحميه من كل ما ينال نفس اليتيم من جراح وآلام.
واستمرت الطفولة هادئة رتيبة، لتضعه أمه فيما بعد في بعض كتاتيب البلد – كما ذكر لنا- التي كان يعلم بها بعض المشايخ الذين كان يكثر من ذكرهم أمامنا مثل الشيخ التقي الورع عبد اللطيف الأحمر، والشيخ ابراهيم أبو حلمي، والشيخ عبد المجيد العبار وشيخ من آل حمودة، ولما كان الجامع الكبير قريبا من بيته، وكان الشيخ عبد اللطيف الأحمر إماما له، فقد كان يمر ويصطحبه إلى المسجد كلما ذهب اليه مما جعله يألف المسجد ويكثر من ارتياده على غير عادة الشباب آنذاك.
انتقاه معلم المدرسة الابتدائية من بين طلاب الكتاب الذي كان فيه ليكون تلميذا في مدرسته – وكان في بداية كل عام يقوم بانتقاء المتفوقين في الكتاب ليدخلهم المدرسة – ليدرس فيها عامين أو ثلاثة، ثم يتركها نتيجة لقسوة المعلمين وشدتهم.
وفي إثر ذلك، فتح قرب منزله دكان حلاقة بعد أن تعلم الحلاقة عند أحد حلاقي البلد، حيث كانت بالنسبة له مرحلة تعلم فيها الكثير من أمور الحياة، لأنه كان يأتيه فيها وجهاء البلد ومخاتيرها الذين اختاروه ليكون جليسهم، يقرأ عليهم من الكتب والقصص التي اعتاد الناس عليها كعنترة والزير سالم وسيف بن ذي يزن، ويردد عليهم الأشعار والنوادر التي ألمَّ بها في ذلك الوقت، ومن هنا اكتسب الخبرة الاجتماعية والشجاعة في الاختلاط بالآخرين حتى صار بعد فترة وجيزة مفتاحا لعقدهم وحلَّالا لمشاكلهم يحترمونه ويستشيرونه في كثير من الأمور، ولعل هذا ما شجعه على العودة إلى إتمام دراسته فجمع الدراسة ليلا مع الحلاقة نهارا وليتم المرحلة الابتدائية ثم الإعدادية في دمشق، ومن ثم الثانوية رغم صعوبة التنقل وبعد الطريق، وكلَّما ازداد علمه، علت مكانته، وزاد حب الناس له، وقربه من وجهائهم، وعظم احترامهم له، واشتغل أثناء ذلك في التعليم لفترة وجيزة، وترك الحلاقة ليدخل الجامعة السورية في قسم اللغة العربية.
لم يكن في البلد في ذلك الوقت إلا القليل من المتعلمين، ولم ينل الثانوية قبله فيها إلا أربعة أشخاص أو خمسة فقط وشكلت الجامعة تحديا كبيرا له أثبت فيها أنه أهل لتجاوز كل الصعاب، فقد انكبَّ على الدراسة والكد حتى أنهاها دون أي تأخير.
في ذلك الحين امتلأت الجامعة بكبار الأساتذة والعلماء الذين كان يذكر فضلهم على الدوام ومنهم الدكتور صبحي الصالح والأستاذ سعيد الأفغاني، والأستاذ عمر فروخ، والأستاذ راتب النفاخ، والدكتور مصطفى السباعي رحمهم الله تعالى وكل هؤلاء وغيرهم من الجهابذة في الجامعة وغيرها كان لهم الأثر الكبير في تحديد بنيانه الفكري وتوجيه دفة سفينته.
نضج قبل الأوان:
قبل أن أسترسل في هذه المرحلة الهامة من حياة الوالد، لا بد لي من ذكر أن كثرة اختلاط الوالد بمشايخ البلد ووجهائها جعله يطلع على معظم أمورهم، فتجاوز بذلك رهبة الكثير من الهالات التي كانت تخدع الكثيرين مما يجعلهم يشعرون بالوجل أمامهم، ولذلك زال هذا الحاجز عنده، بل صار جريئا معهم حتى أنهم صاروا يخشون لسانه ويخافونه لأنه يعرف عنهم الكثير، بل يعرف عنهم أمورا لا يعرفها أقرب الناس إليهم، وجعله ذكاؤه وحافظته وسعة اطلاعه لا ينخدع بمن حوله ولا يعطيه أكثر من حجمه لأنه يعرفه تماما، وهذا كان شأنه مع كبار البلد ومن يراهم الناس كبارا فكبر أكثر في عيون العامة من الناس الذين كانوا يرونه يخالط هؤلاء الكبار ويتعامل معهم ويعاملونه بكامل الاحترام و التقدير، بل راحوا يعيرون أولادهم به ويطلبون منهم أن يكونوا مثله ويحذو حذوه، وغدا بعد عمله بالتدريس عند الجميع معلما ومدرسا كبيرا ووجيها عالما ينظرون إليه بالإعجاب والتبجيل في زمن ساد فيه الخواء والفراغ.
الأمكنة التي علم فيها:
لقد امتدت هذه الفترة (1950 – 1962 ميلادي)إلى بدء ستينيات القرن العشرين تقريبا وتنقل خلالها في التدريس في عدة محافظات سورية، حيث ابتدأ التعليم في محافظة القنيطرة بالحميدية، ثم إلى الكسوة في محافظة دمشق، ثم إلى داريا، ثم إلى تدمر في محافظة حمص، ليعود بعدها إلى مدينة دمشق ليدرس اللغة العربية في مدارسها ومعاهدها ويحط رحاله في إعدادية عباس محمود العقاد، وخلال وجوده فيها درس لفترات قصيرة في عدة معاهد ومدارس أخرى .
وخلال هذه التنقلات كان يزداد خبرة وإدراكا لما حوله، ويزيد معه اعتماده على نفسه بعد أن كانت والدته قد أراحته من معظم عناءات الحياة وعذاباتها ، وما عهدناها حينما وعينا الا راضية عنه، داعية له بأدعية غدت عندنا جميعا نشيدًا ينشر في نفوسنا كل سكينة واطمئنان.
زواجه:
وكذلك كان زواجه في هذه الفترة من شريكة دربه أم سليم، التي كانت السكن واللباس والظل الظليل الذي يخفف عنه مصاعب الحياة ولقد تمَّ ذلك في عام 1956 ميلادية، وأم سليم قريبة له تعلمت قراءة القرآن في أحد كتاتيب البلد على غير عادة الإناث آنذاك، حتى صارت تجيد قراءة القرآن الكري، لكنها لم تتقن الكتابة، إلا أن ذلك لم يقلل من قيمتها في إعداد البيئة التي عاش فيها الوالد وأكمل مسيرته .
فقد أعانته على البر بأمه فوق بره بها صابرة مطيعة قريبة من الجميع لا تحسن الخصام مع أحد، أحبتها والدته مثل بناتها وأكثر حتى كانت تفضلها عليهنَّ، وتخصها بأمور لا تطلعهن عليها؛ لكثرة برها بها، وقربها منها، وحُسن تعاملها معها، خاصة بعد أن فقدت بصرها في آخر أيامها.
كما أنها حضنت أولادها وربَّتهم معه تربية شهد بحسنها القاصي والداني خلقا ونظافة وذوقا وتعاملا كما لو أنها كانت خريجة أرقى المعاهد وأعلى الجامعات.
لقد خلفته أم سليم في بيته وأهله، فكانت أمًّا رؤومًا لأولاده، وزوجة بارة مطيعة له، بارة بأمه وأهلها بشكل يثير الإعجاب ممَّا أكسبها حب الجميع من أهله وأهلها، لكن هذا لم يمنعها أحيانا من التبرم من كثرة إحضاره للكتب، وطول مجالسته لها دونها ودون أولادها، حتى صارت أحيانًا تتبرم متندرة حينما تتأخر قليلا في الطعام ونسألها عنه، فتقول: سأطبخ لكم الكتب التي جلبها والدكم.
يتبع انتقل للصفحة التالية….