الهجرة إلى مصر والاستقرار فيها:
ومع بدء هذه الغمة التي عمَّت سورية، ومع زيادة الأمور سوءا لم يكن الوالد موافقا مطلقا على ترك البلد أو مغادرتها، لكني وإخوتي – ومجمع الزوائد صار في مراحله الأخيرة مع التزام الوالد مع دار المنهاج لإخراجه وطباعته، وحالُ البلد لا تسمح له بالعمل في مكتبته – آثرنا أن يخرج الوالد إلى بلد يتم فيه عمله وأقنعناه بذلك بعد لأيٍ، وكم كان الأمر شديدا عليه، فوافقنا وخرج مع أخي مرهف إلى أرض الكنانة ليستقر في برج العرب قرب الإسكندرية، وكانت أختي الكبرى مع زوجها عبده كوشك قد سبقا إليها.
وهناك في مصر المحروسة منًّ الله عليه فأتم المجمع مع أخي مرهف وما إن أتمه-وخرج بحلته البهية التي تشكر دار المنهاج عليها – إلا وامتحنه الله بحادث سيارة أليم وهو عائد من زيارة لبعض علماء مصر وهو الشيخ مصطفى العدوي، وكان يرافقه صهري عبده كوشك وبعض أصحابه المصريين، ويكتب الله أن يتوفى صهري عبده عليه رحمة الله، ويصاب الوالد بكسور شديدة في يده ورجليه ، بقي بعدها في المشفى مدة ليست بالقصيرة ،ومنَّ الله علينا بشفائه وعافيته، حيث كان أخي مرهف وأختي هندا رغم مصابها بزوجها نعم العون والرفيق، ونعم الراعي والمعين في ساعة كانت علي وعلى اخوتي من أحلك ساعات حياتنا حيث تعذر علينا أن نكون جواره لنؤدي واجبنا ونخفف عنه بعضا ممَّا يعاني من ألم ومعاناة .
وجزى الله أهل العلم هناك في مصر وعلى رأسهم الشيخ المحدث أبو إسحاق الحويني كل خير حيث كانوا الأنيس في الغربة والأهل حيث تفرق الأهل مما خفف عنه شدة المحنة وقسوتها.
خرج الوالد من المشفى وتماثل بحمد الله للشفاء، ليعاود الكرة والعمل من جديد مع أخي مرهف لينجزا كتبا عدة منها: بر الوالدين للبخاري، وأخلاق النبي لأبي الشيخ الأصبهاني، والأدب المفرد للبخاري، ويعيد النظر في بعض كتبه السابقة مثل مسند الحميدي وأسأل الله عزوجل أن ييسر له في خدمة الوحي قرآنا وسنة، ويعظم له أجره، وينزله أكرم منازل المخلصين، ويبارك له في قوَّته وعافيته وعمره ويجعلنا معه ممن طال عمره وحسن عمله وصفت نيته وقصده إنه لا يضيع عمل المحسنين.
صفاته وسجاياه:
إنَّ من أهم ما يميز الوالد الكريم هو همته العالية وجلده وصبره في عمله، ولعل هذا ما جعله يختار هذه الأسفار الكبيرة التي تحتاج إلى جهود الكثيرين، يحب المطالعة والبحث إلى حد جعله يواصل الليل بالنهار أحيانا، أعانه في ذلك ذاكرة حادة وحافظة قوية وببعد نظر ثاقب وحكمة صائبة وبصيرة سديدة، وكل ذلك جعله كما رأينا يستشار من القريب والبعيد.
وقد كان إذا تكلم فصيحا بليغا حاضر البديهة ، دقيق الملاحظة ، سليط اللسان في غير ظلم ،لاذع النقد في غير عدوان ، وخاصة إذا شعر أن أمامه طفل يتمشيخ أو جاهل يتعالم أو شيخ يتصابى أو أحد يتدخل فيما لا يعنيه ، وكان كثير المرح والدعابة يرصع حديثه بكثير مما مر معه في الحياة من قصص ونوادر ومواقف وحكم وأشعار يساعده في إيصال ما يريد إلى القلوب دون عنت ولا تكلف، يخاطب العقل ويشبعه بحجة بليغة ويسكن النفس بعلاج ما تعانيه ويضحك الشفاه بما يذكره من طرف يتلاعب بأوتار القلوب وحبال النفس ويسوقها كيفما يشاء ولهذا كان إذا تكلم مؤثرا وفاعلا .
ولعل كونه ألفا مألوفا يحب مخالطة الناس والقرب منهم جعل الكبير يركن اليه ويرتاح معه، وجعل الصغير يأنس اليه ويسعد عنده، حتى إنه كان يلاعب أحفاده وكأنه واحد منهم يركض معهم ويلاحقهم ويلاطفهم، وحينما كبرنا أدركنا صعوبة تملك الانسان لهذه الصفة السهلة الممتنعة التي تجعل من صاحبها قادرا على احتواء الجميع والتأثير فيهم فلا تخدش الدعابة له وقارا ولا يحجب الوقار كثيرا من حكمته على الاخرين.
كان سريع التأثر، ذا دمعة حاضرة خاصة إذا عرض له ما أصاب المسلمين أو يصيبهم من مصائب ونكبات، وترتسم البسمة والحبور على محياه حينما يسمع ما يشفي الصدر ويسر الخاطر، لكن سرعة التأثر لا تعني ضعفا ولا وهنا، بل كان جلدا صبورا أمام كل المصائب التي نزلت به وبأهله. كل هذه الصفات حوتها شخصية حازمة قوية حاضرة أنيقة في غير إسراف أميل إلى الطول متوسط الصحة مستدير الوجه تزيده لحيته وقارا على وقار.
الأسرة والأولاد:
تزوج وعاش مع والدته حتى توفيت رحمها الله، وكان بارا بها قريبا إليها، وزوجته أم سليم قريبة له شاركته مسيرته كلها، ورزقه الله منها تسعة أولاد خمسة من الذكور وأربعا من الاناث.
أما الذكور فأكبرهم سليم الذي درس الطب البشري، ثم اختص بالطب المخبري، ومأمون الذي درس الطب البشري ثم اختص في الأمراض الهضمية، ومحمد الذي درس الطب البشري واختص بالأمراض القلبية، وبعده حسام الذي درس الطب ثم اختص في الأشعة وأخيرا محمد مرهف الذي درس الهندسة الكهربائية ليلازم أباه فيما بعد ويشاركه في عدد من الكتب.
وقد أصدر أولاده عدة كتب طبية صدرت بأسمائهم في السوق، وكانوا يمارسون الطب في بلدهم داريا، أما مرهف فقد تفرغ للعمل مع أبيه وأصدر عدة كتب في الثقافة الإسلامية، وشاركه الوالد في تحقيق عدة كتب كان أهمها مشاركته في إتمام مجمع الزوائد.
أما البنات فكنَّ أربعا، كبراهن هند وهي زوجة صهري عبده كوشك رحمه الله، وقد درست اللغة العربية وأصدرت عدة كتب ثقافية إسلامية، والثانية ميسون وقد توفيت رحمها الله شابة، والثالثة كانت خزامى وقد دخلت كلية الشريعة، وأصغرهن سوسن التي درست في كلية الشريعة كذلك، وكلهن كنَّ عونا للوالد في المطابقة وقراءة المخطوطات ومراجعة المطبوعات وتقويمها.
وفي الفترة الأخيرة وبعد ما حل ما حل في بلادنا غادر إلى مصر وتفرق الشمل وأصبح البعض في سورية، والبعض في مصر والأردن وغيرهم في السعودية وغيرها وتشتد المحنة بوفاة ابنته سوسن.
ثم تلا ذلك اصابته بالحادث في مصر وإحاطته عناية الله بكل لطف ورأفة، ثم عاود نشاطه من جديد، وأملنا بالله ان يبارك له في قوته وصحته وعمره وينزله في جنات النعيم.
ولقد منَّ الله عليه من أولاده وبناته أحفادا وحفيدات درسوا في الجامعات، فكان منهم الطبيب والمهندس والمدرس ولعل ما أثلج صدره أن عددا من أولاده وأحفاده يحفظون القران الكريم، وهذا من فضل الله ورحمته عليه وعلى ذريته وبفضل دعاء أمه له حيث كانت تردد دائما بأن لا يشقي الله له ولدا وأن يرزقه ذرية طيبة إنه سميع الدعاء.
المحن والمصائب التي نزلت به:
امتحن الوالد صغيرا ثم امتحنه الله عزوجل بغياب ولده عنه، ومرض بعدها مرضا في قلبه وأجريت له عملية جراحية فيه، ثم توفيت والدته بعد امتحانها بفقدان بصرها، ثم توفيت ابنته واسطة العقد، ثم جاءت المحنة الكبرى وهي ترك الوطن وتفرق الشمل والتشتت في البلدان، ولعل اجتماع محنة الغربة وترك الوطن وفراق الأولاد ثم وفاة ابنته الصغرى وبعدها الحادث الأليم ووفاة صهره كانت الأشد والأقسى، ونسأل الله عزوجل أن يزول هذا الهم وهذا الكرب ويجمع الشمل ويلم الشتات.
أسفاره ورحلاته:
ابتدأ بالتنقل صغيرا نتيجة دراسته في دمشق، ولم تكن وسائط النقل آنذاك إلا دراجته الهوائية وكم كانت معاناته شديدة أيام الشتاء حيث الظلام والمطر والبرد والطين، وهذا ما جعل كل رفاقه يهربون من المعاناة ويبقى وحيدا صابرا حتى أكمل دراسته.
ثم صار يتنقل في مرحلة التدريس ما بين دمشق والقنيطرة وحمص ليحط رحاله ويستقر عمله في دمشق غاديا رائحا إليها كل يوم إلى أن تقاعد.
سافر إلى الحجاز حاجا ومعتمرا وزائرا لبعض علماء الحجاز عدة مرات، كما زار لبنان وتركيا وبعض دول أوروبا كإيطاليا والمجر وبولندا وليقيم أخيرا في مصر إلى أن توفي فيها رحمه الله.
كتبه وآثاره:
إنَّ تخصص الوالد في بداياته في دراسة اللغة العربية وآدابها جعله يميل في البداية إلى دراسة الأدب بكل فنونه وخاصة الشعر فقرأه وكان يكتبه لكنه لم يكثر منه، غير أن توجهه فيما بعد جعله يترك الأدب والشعر لساعات الفراغ والراحة وينطلق للعمل في دراسة وتحقيق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانت الكتب التي أصدرها على التوالي هي:
1- سير أعلام النبلاء:
وهو كتاب للإمام الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى ، وقد حقق الوالد منه المجلد الأول والسادس بمشاركة الشيخ شعيب الأرناؤوط رحمه الله تعالى ،وقد طبعته دار الرسالة .
2- صحيح ابن حبان:
وهو الكتاب الثاني الذي أخرجه الوالد للإمام الحافظ ابن حبان رحمه الله تعالى ، وقد تبنت دار الرسالة العمل منذ بدايته ، وينجز العمل بسرعة، ثم يصدر المجلد الأول والثاني، و يحتدم خلاف بينهم ويسوى ويسلمهم العمل كله محققا وليصدر فيما بعد منسوبا إلى غيره على خلاف اتفاقهم.
3- مسند أبي يعلى الموصلي:
وهذا الكتاب للإمام الحافظ أحمد بن علي بن المثنى التميمي ،أبي يعلى الموصلي ،وقد صدر عن دار المأمون للتراث في أربعة عشر مجلدا.
4- معجم شيوخ أبي يعلى:
للإمام أبي يعلى الموصلي، صدر عن دار المأمون للتراث في مجلد واحد.
5- موارد الظمآن إلى زوائد بن حبان:
للحافظ الإمام نور الدين الهيثمي، وقد صدر هذا الكتاب عن دار الثقافة العربية في تسع مجلدات، وساعده في إخراجه صهره وتلميذه الأستاذ عبده علي كوشك رحمه الله تعالى.
6- كتاب ناسخ القرآن ومنسوخه (نواسخ القرآن):
للحافظ المفسر عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، وهو كتاب في مجلد واحد، أخذ منه الوقت الكثير لأهمية هذا العلم واختلاف الآراء فيه ، فأكب على كتب علوم القرآن والناسخ والمنسوخ ليخرج بمقدمة وافية جمع فيها ما رآه شافيا لما يثور حول هذا العلم من تساؤلات واستيضاحات.
7- مسند الدارمي (المعروف بسنن الدارمي):
للإمام أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، وقد صدر في أربعة مجلدات متوسطة الحجم .
8- كتاب النصيحة في الأدعية الصحيحة:
وهو من تأليف عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي، صدر عن دار المأمون للتراث على شكل كتاب صغير الحجم، حوى أحاديث تناولت كثيرا من الأدعية والأذكار المتداولة بين الناس.
9- مسند الحميدي:
للإمام أبي بكر عبد الله بن الزبير الحميدي ،وقد صدر مطبوعا في مجلدين عن دار السقا ، كما صدرت له طبعة ثانية في الحجاز ، ولقد أعاد الوالد النظر فيه مع ابنه مرهف وهو في مصر وهو بإذن الله قيد الطبع .
10- المستدرك على الصحيحين:
للإمام أبي عبد الله الحاكم ، وقد خرج منه قرابة الألفي حديث ، ونسأل الله عز وجل أن يعينه على تمامه .
11- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد:
للإمام الحافظ نور الدين الهيثمي ،وهو الكتاب الذي بقي يعمل فيه قرابة العشرين عاما ، لتصدر بعض مجلداته عن دار المأمون للتراث ،حيث تبنى طبعه المرحوم عبد المجيد رمضان، ثم توقف المشروع لتتبناه دار المنهاج جزاهم الله كل خير وتخرجه في حلة بهية تتناسب مع مكانة هذا السفر الكبير والوقت الذي قضاه الوالد في إخراجه وتحقيقه ، وقد صدر في ثلاثة وعشرين مجلدا كبيرا أنهى معظمها في داريا الشام وأكمل الباقي منها في مصر .
12- الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني:
وهو كتاب جليل رتبه الشيخ عبد الرحمن البنا المعروف بالساعاتي لمسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وهو جاهز للطبع في حوالي ثماني مجلدات.
13- الأدب المفرد:
للإمام محمد بن إسماعيل البخاري، وهو مجلد واحد ساعده فيه ابنه مرهف وسينشر قريبا باذن الله تعالى.
14- كتاب بر الوالدين:
للإمام محمد بن إسماعيل البخاري، في مجلد واحد ساعده فيه ابنه مرهف وسينشر قريبا بإذن الله تعالى.
15- كتاب الأربعين في شعب الدين:
لأبي القاسم علي بن الحسن الصغار، وساعده في تحقيقه ابنه مرهف وسينشر قريبا باذن الله تعالى.
16- كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وآدابه:
لأبي محمد عبد الله بن محمد المعروف بأبي الشيخ الأصبهاني، وهو كتاب في مجلد واحد ساعده في إخراجه وتحقيقه ابنه مرهف، وسينشر قريبا بإذن الله تعالى.
يتبع انتقل إلى الصفحة التالية…..